كان لزاما علينا أن نقبل التنقل في سيارة أجرة رفقة عشرة ركاب عوض ستة، وبمبلغ عشرة دراهم عوض ستة ، من مركز أولاد فرج، نحو مسجد دار القايد على طرف دوار السماعلة حيث تتفشى بالمنطقة حركة النقل السري في غفلة من السلطات الوصية.
كان الطريق وعرا يمكن نعته تجاوزا بالمعبّد أمام سيارة متهالكة تلفظ سحب دخانها كلما حرّك السائق النحيل ذو الشارب الكثيف ركبته بعد أن يضع يده على علبة السرعة، لم تكف السيارة عن المراوغة بين الحفر المترامية و النّدوب الكثيرة كلما طوت شبرا من المسيرة التي امتدت زهاء الأربعين دقيقة، وسط حقول قاحلة لا يوحي إلى الناظر أنها ضمن المجال السقوي سوى تلك القنوات المتراصة جنب الطريق و التي تتنفس حرّا على رؤوس بعض الأغنام المحتمية بها من ألهبة الشمس التي ما فتئت تلفحها، لنكمل الباقي مشيا على الأقدام لمسافة كيلومتر و نيف، بين صفوف الطلح و الصبار التي تمنع عنا رؤية بعض أشجار التين و الرمان المختبئة خلفها في مكان هاديء لا يكسر صمته سوى نباح غير متراتب لكلاب علمنا فيما بعد أنها تسخر لحراسة هذه الحقول من أي تطاول غاشم.
لنصل أخيرا إلى مقام سي قدور مقصوري أكبر معمر في العالم و الذي عايش فترة حكم سبعة سلاطين علويين بداية بحقبة المولى الحسن الأول إلى الآن و لا زال يحفظ كل تاريخ المغرب قبل و بعد الإستعمار بذاكرة قوية لم يعلوها الخرف أبدا و كان دليلنا بالطريق المؤدية إليه أحد ساكنة المنطقة المعروف بلقب "ولد مواتو" كناية على انقسام تربيته بين أمه الأصلية وجدته بعد أن توفي والده مع أول صرخاته بالدنيا و هو الذي دلّل أمامنا كل الصعاب التي كانت تعترضنا ليس بالطريق فحسب بل حتى إنجاز العمل.
اقتحمنا عليه خلوته شيخ متوسط القامة يرتدي جلبابا ناصع البياض تعلو وجهه الذي غزته التجاعيد عمامة مشرقية مرتبة بعناية كبيرة فوق لحية طويلة تطفو على شارب لم يعف عنه و في أقصى زاوية انتصب عكاز (بوردو)يستند إليه كلما اقتضت الحاجة،بعد التحية قدمني مرافقي للشيخ فبادرني بابتسامة باردة تترجم أن الزمن بدأ ينال منه رويدا رويدا أردفها أن الصحافة الإسبانية و الفرنسية سبقتانا إلى زيارته لكن ذلك لم يمنعه من حركة لطيفة عربون ترحيب. بيد أن الملاحظ هو حديثه بأسلوب مضبوط و رزين وبطريقة مسترسلة كأنه يحفظ الأحداث عن ظهر قلب لا تقاطعه إلا لحظة ابتلاع ريق أو استنشاق نفس،و قد عدّل جلسته كأنه يرفض الخنوع لقانون خريف العمر و الدليل أنه لا يتوانى في حضور كل اجتماعات أهل الدوار مثلما لا يتوانى في أداء واجباته الدينية بشكل موقوت.
يروي سي قدور مقصوري و قد عدّل جلسته و ارتشف من كوب الماء الطيني المنقوش بالقطران أمامه عن احترافه للبيازة (الصيد بالصقور) و كيف كان يسافر إلى منطقة حاحا لصيدها ويفضل أن تكون أنثى لأن حجم الذكور يكون نحيلا قبل إخضاعها لبرنامج تدريب صارم و مضبوط لينتقل إلى التطرق لزياراته المتكررة رفقة مجموعة من أقرانه صوب الرباط تلبية لدعوات ملكية (كنا دائمي التنقل للرباط في عهد سيدي محمد الخامس و السنوات السابقة، حيث كنا ننزل ضيوفا على الأمير مولاي الحسن آنذاك والأمير مولاي عبد الله مصحوبين بطيورنا المدرّبة و نخرج سويا في رحلات صيد بالصقور أمام مرآهما لأن هذه الرياضة كانت تستهويهما كثيرا، و عليه كانا يغدقان علينا العطاء بحيث يمنحونا قيمة مالية كبيرة تقدّر بخمسمائة درهم و خمسين كيلو من السكر إضافة إلى طن من "النخالة" نستخلصه من الجديدة ) و نفى الشيخ مقصوري عصرنة مهنة تربية و تدريب الصقور بين الأمس و اليوم بحيث ظلت نفس الطرق و الوسائل المستعملة في ذلك منذ أن لقنه عمه سي الهاشمي أولى أبجدياتها،للإشارة فعمه هذا عايش فترة القايد سي عيسى بمنطقة عبدة الذي اشتهر بقصته مع خربوشة كما أنه شارك في عدة ملتقيات للصيد بالمغرب و كذلك بتركيا،لكن المؤكد ان سي قدور لم يعد يملك من كل تاريخه مع الصقور سوى قفاز يؤتث جدران البيت الذي يقطنه و حفيد من ابنه بالتبني يشتغل على غرار مجموعة من شباب الدوار لدى أحد الأمراء الخليجيين بإيفران في مهنة تربية و تدريب هذا الصنف من الطيور.كما ان له تاريخا مع التبوريدة و ركوب الخيل حيث لم يقم ببيع فرسه إلا العام الماضي بعدما لم تعد له القدرة على ذلك و يحكي أنه تعلم ركوب الخيل منذ الصغر ضمن سربة القواسم وراء العلاّم سي الحسين أحد أشهر نظرائه بدكالة و قد فاز رفقته بعدة جوائز تقديرية قبل أن يتسلم المشعل ابنه بعد وفاته لكنه لم ينس المرة الأولى التي شارك فيها رسميا في التبوريدة وقال( كان العلام حينها القايد بوبكر الذي كان كان يتزعم سنويا مجموع الفرسان المشاركين بموسم مولاي عبدالله أمغار و التي تفوق 700 مشارك، و لازالت بحوزتي و ثيقة تؤكد انتمائي لسربة القايد بوبكر)مضيفا أنه مواظب على حضور الموسم منذ ما يقرب من 110 سنوات عندما كان يقتاد الفرس مشيا على الأقدام للحفاظ على لياقته في ظل عدم توفر أداة لتنقيله و سيظل كذلك مادام حيا لارتباطه وجدانيا بأشهر مواسم دكالة و المغرب عموما.
ختم الشيخ مقصوري حديثه بالتماس الجهات المعنية لتمكينه من مأذونية يعيش من عائداتها مادام حيا و استنكر تجاهل المسؤولين لكل تاريخه حيث قوبل طلبه إلى العامل السابق على الإقليم باللامبالاة و التسويف رغم الوثائق التي أدلى بها كعميد للبيازة و الخيالة و انتسابه للشرفاء القواسم.
0 commentaires :
إرسال تعليق